”بكين تنادي”: تقييم حضور الصين ”المتنامي” في شمال أفريقيا
ترجمةبوابة إفريقيا الاقتصاديةمع فكّ الولايات المتحدة رويداً رويداً ارتباطها بالشرق الأوسط ومع مواجهة أوروبا تحديات داخلية، تكتسب جهة فاعلة جديدة بهدوء نفوذاً أكبر في أنحاء شمال أفريقيا. فقد زادت الصين بشكل استراتيجي من انخراطها في بلدان مثل مصر والجزائر والمغرب، الواقعة على تقاطع ثلاث مناطق أساسية ألا وهي الشرق الأوسط وأفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. ويشمل حضور بكين المتنامي في هذه البلدان، على سبيل المثال لا الحصر، التجارة وتطوير البنية التحتية والموانئ والشحن والتعاون المالي والسياحة والتصنيع.
ومن خلال هذا الارتباط، تهيّئ الصينُ منطقة شمال أفريقيا لتضطلع بدور حيوي في الربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهو هدف أساسي لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ. ركّزت تحليلات سابقة لدور مبادرة الحزام والطريق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أنّه يصعب تحديد أطر المبادرة، ونطاقها الفعلي مفتوح للكثير من النقاش. وفيما لا تتضمن خريطة مبادرة الحزام والطريق الحالية رسمياً دول شمال أفريقيّة سوى مصر، تمّ توقيع مذكّرات تفاهم بين الصين وكل دولة في شمال أفريقيا، مما يبرهن على أنّ الصين توسّع انتشارها في المنطقة.
ولا توسّع الصين تعاونها مع بلدان شمال أفريقيا في المجالَين الاقتصادي والثقافي فحسب، بل في المجالَين الدبلوماسي والدفاعي أيضاً. علاوة على ذلك، تعتمد نموذجاً تنموياً يسعى إلى دمج السلطوية مع النمو الاقتصادي، وهو نموذج له جمهور توّاق لدى الأنظمة في أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بناء على ذلك، من المرجّح أن تنجم عن دور الصين المتنامي في شمال أفريقيا تداعيات اقتصادية وجيوسياسية مؤثرة للغاية في بلدان المنطقة وحول العالم.
يسعى ملخّص السياسة هذا إلى تحليل دور الصين المتنامي في شمال أفريقيا. فيبدأ أولاً باستعراض خلفية علاقات الصين مع الجزائر ومصر والمغرب وتونس وليبيا وسياقها. ثمّ يقدّم نظرة عامة عن عناصر القوة الناعمة والصلبة للنفوذ الصيني في شمال أفريقيا، مع تركيز خاص على القوة الناعمة. أخيراً، سيطرح الملخّص مجموعةً من التوصيات موجّهة لصانعي السياسات في شمال أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة.
وكجزء من هذه التوصيات حول السياسات، يشير الملّخص إلى أنه على الحكومات في شمال أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة أن ترحّب بحذر بانخراط الصين وعليها أن تراقبه عن كثب أيضاً. وينبغي أن تحتاط حكومات شمال أفريقيا من “دبلوماسية الدَّين” والمراقبة الصينية، فيما يجدر أن تحذر الحكومات الغربية من التداعيات الأمنية المتمخّضة عن حضور صيني متزايد في المتوسط. وفي المستقبل، ينبغي على الصين وشمال أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة أن تسعى إلى أساليب انخراط تعود بالربح على جميع الأطراف وتجلب معها الازدهار والاستقرار إلى حوض المتوسط.
الخلفية والسياق
بدأت علاقة الصين مع بلدان شمال أفريقيا، ولا سيّما الجزائر ومصر، في خلال الكفاح المناهض للاستعمار، إذ انبثقت عن دعم ٍ أيديولوجي لحركات التحرير الوطنية. واللافت في الأمر أنّ الصين كانت البلد غير العربي الأول الذي اعترف باستقلال الجزائر وقدّمت دعماً سياسياً وعسكرياً لكفاح الجزائر الثوري. غير أنّ أساس مصلحة الصين في شمال أفريقيا ابتعد عن “الرومانسية الثورية” وتحوّل إلى الهواجس الاقتصادية والاستراتيجية في نهاية القرن العشرين.
وفي أعقاب الركود العالمي في العام 2008 وأزمة منطقة اليورو، عملت دول شمال أفريقيا، التي اعتمدت تاريخياً على التجارة والاستثمار الآتيين من أوروبا والولايات المتحدة، على تنويع أسواقها وشركائها الاقتصاديين. وفي خلال الفترة عينها، حافظ اقتصاد الصين على زخم هائل، مسجّلاً معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي نسبته 9,5 في المئة في العام 2011. وعلى الرغم من تباطؤ النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة، عزّزت الصين قوّتيها الاقتصادية والناعمة من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي تشكّل المبادرة الرئيسيّة في عهد شي جين بينغ على مستوى السياسة الخارجية.
ومن المتوقّع أن تكلّف هذه المبادرة التي أُطلقت في العام 2013 حوالي تريليون دولار، بحسب بعض التقديرات، وأن تشمل أكثر من 80 بلداً. وتستأثر هذه البلدان بنسبة 36 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و41 في المئة من التجارة العالمية. وقد حاز جنوب آسيا حتى الآن على أغلبية مشاريع مبادرة الحزام والطريق، غير أنّ توسُّع المبادرة غرباً نحو أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جارٍ على قدم وساق. وفيما يشكّل حضورُ الصين الاقتصادي في أفريقيا وآسيا موضوعَ الكثير من الدراسات والتمعّن، تستحق العلاقة بين الصين وشمال أفريقيا المزيد من الانتباه. فتكشف هذه العلاقة النامية عن توجهات أساسية وتسلّط الضوء على أولويات الصين الاستراتيجية وعلى الطريقة التي تزيد فيها بلدان مثل المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر تعاونها مع شركاء خارجيين جدد.
وتنخرط الصين في نوعَين أساسيَّين من “دبلوماسية الشراكة” في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الشراكات الاستراتيجية والشراكات الاستراتيجية الشاملة. وبحسب دراسة ستروفر حول دبلوماسية الشراكة الصينية، تتّصف العلاقات بين البلدان الشريكة تبعاً للشراكات الاستراتيجية بالخصائص الأربعة الآتية:
- تتخطّى العلاقات الدبلوماسية النموذجية، فتتضمّن اجتماعات ثابتة بين المسؤولين الحكوميين والوكالات الحكومية لتنمية التواصل والثقة.
- لا تقع ضمن حدود التحالفات القائمة على المعاهدات.
- يحرّكها “الهدف” أكثر مما يحركها “التهديد”، فتركّز إجمالاً على مجالات التعاون المتبادل في الاقتصاد والثقافة والأمن والتكنولوجيا.
- تتميّز بتركيزها على السلوك والعمليات المؤسّساتية.
ومقارنة بالشراكات الاستراتيجية، تتضمّن الشراكات الاستراتيجية الشاملة مستوى أعلى من التواصل المؤسّساتي، بما فيها اجتماعات منتظمة عالية المستوى بين كبار الأعضاء القياديين من كلا البلدَين الشريكَين. ويلاحظ ستروفر أنّه “يجدر استيفاء شروط ثلاثة قبل إبرام اتفاقية حول… [شراكة استراتيجية شاملة]، وهي الثقة السياسية والروابط الاقتصادية الكثيفة والتبادلات الثقافية والعلاقات الحسنة في القطاعات الأخرى.
وكما يُظهر الجدول أدناه، أنشأت الصين شراكات استراتيجية شاملة مع الجزائر ومصر وشراكة استراتيجية مع المغرب. وتتضمّن هذه الشراكات العشرات من مذكرات التفاهم والوعود بمشاريع بنى تحتية وإنمائية كبيرة. تجدر الإشارة إلى أنّ الصين وقّعت مذكرات تفاهم حول مبادرة الحزام والطريق مع ليبيا وتونس لكنّها لم تعقد شراكةً رسمية مع أيّ من هاتين الدولتين.
البلدان الشريكة للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من العام 2012 إلى يوليو 2016.
وتُظهر هذه الشراكات كيف أنّ الصين ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عزّزت علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية في السنوات الأخيرة، ولا سيّما منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق. ففي أنحاء المنطقة، افتُتحت مراكز ثقافية صينية ومعاهد كونفوشيوس، فيما أزيلت القيود على تأشيرات السفر وإنذارات السفر للسياح الصينيين، مما أدّى إلى زيادة السياحة بوتيرة سريعة. وقال الدبلوماسيون الصينيون في كل من السفارتَين في الرباط والقاهرة إنّ هذه العلاقات المعزّزة تعكس هدف مبادرة الحزام والطريق الرئيسي القاضي بنشر التواصل والتنمية الاقتصادية في خمسة مجالات ذات أولوية: التنسيق حول السياسات والتواصل في البنية التحتية والمزيد من التجارة والتكامل المالي والتبادلات على مستوى الأشخاص.
ويعكس إنشاء الصين شراكات استراتيجية شاملة مع كل من مصر والجزائر الدورَ الكبير الذي تضطلع به هاتان الدولتان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى أنّهما تشكّلان العلاقتَين الثنائيتَين الأساسيتَين للصين في المنطقة لجهة التجارة وبيع الأسلحة ومشاريع البنى التحتية. بالمقابل، غدت الصين الشريك التجاري الأول لكلٍّ من مصر والجزائر.
تشكّل الجزائر مورّداً مهماً للنفط والغاز إلى أوروبا، بالإضافة إلى أنّها جهة فاعلة اقتصادية وأمنية أساسيّة في مناطق المتوسط وشمال أفريقيا والساحل الأفريقي. وميزانيتها العسكرية هي الكبرى في أفريقيا، فقد أنفقت 9,6 مليار دولار أمريكي في العام 2018، ويمكن القول إنّها تتصرّف بصفة “مزوّد أمن إقليمي” رائد. وعملت الجزائر للتوسط في مختلف الصراعات الإقليمية، مثل الصراعَين في مالي وليبيا، ونشطت تاريخياً كمنفذ إلى أفريقيا وإلى كتل إقليمية مهمة مثل الاتحاد الأفريقي.
في غضون ذلك، تتحكّم مصر بأحد الممرّات المائية الأكثر استراتيجيةً في العالم، ألا وهو قناة السويس، وتغدو مركزاً مهماً للغاز في شرقي المتوسط. وتنشط أيضاً كمزوّد أمن إقليمي مهمّ آخر، فهي تدير إحدى أكبر القوى العسكرية في أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن مصر متحالفة مع المحور السعودي الإماراتي، الذي سعى إلى بسط نفوذه في ليبيا والسودان وأماكن أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفيما تتصف علاقات الصين مع مصر والجزائر بالشراكة الدبلوماسية والأمنية المتينة، يبقى حضورها المتنامي في بلدان مثل المغرب وتونس حضوراً اقتصادياً وثقافياً في المقام الأول. وفي ليبيا، توقّفت الشركات الصينية عن العمل بسبب الاضطراب الجاري، غير أنّ رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، فايز السراج، قال إنّ عودتها مرحب بها.
بصورة عامة، يشير الموقع الاستراتيجي لهذه البلدان الخمسة على الشواطئ الجنوبية للمتوسط إلى أنّ حضور الصين سيستمر بالتوسع، ولا سيّما في المجال الاقتصادي. واللافت أنّ علاقات الصين مع هذه البلدان محدودة بسياستها الرسمية القاضية بعدم التدخل بالشؤون السياسية، على عكس سياسات الشركاء الغربيين. بالمثل، تَعتبر أكثر فأكثر هذه البلدانُ الخمسة، بدرجات متفاوتة، الصين شريكاً بديلاً صالحاً لأوروبا والولايات المتحدة، مما يدفعها إلى توسيع تعاونها مع بكين، ليس في المواضيع الاقتصادية فحسب بل في المسائل الدبلوماسية والدفاعية أيضاً.
القوة الناعمة: الركائز الاقتصادية والثقافية
تدمج السياسة الصينية في شمال أفريقيا عناصر القوة الناعمة والقوة الصلبة، لكنّ القوة الناعمة برزت بشكل خاص في الخطاب الصيني. وفيما تُعتبر الكثير من أنواع القوة الاقتصادية من أشكال القوة الصلبة، تنخرط الصين عبر شكل أنعم من النفوذ الاقتصادي، مستخدمة الدبلوماسية الاقتصادية كمكافئة أكثر منها كعقاب. ويرتبط الجانب التجاري للنفوذ الصيني في شمال أفريقيا بشكل مباشر بالشرعية المتنامية للنموذج الإنمائي الصيني الذي يركّز على التنمية الاقتصادية وعدم التدخل بالشؤون السياسية، على عكس التركيز الغربي التقليدي على المناصرة لتحقيق المعايير الليبرالية والديمقراطية. وبالتماشي مع هذه الملاحظات، تعرّف هذه الورقة القوّة الناعمة على أنّها تتضمن العلاقات الاقتصادية والتجارية، بالاستناد إلى فهم لكيفية استخدام الصين التجارة والاستثمار والتمويل كأدوات غير قسرية في علاقاتها مع البلدان الشمال أفريقية.
وحالياً، يرتبط معظم الانخراط في مبادرة الحزام والطريق في شمال أفريقيا بالعلاقات الاقتصادية والتجارية، مما يعطي البلدان المعنية فرصة لزيادة أحجام التبادل التجاري والاستثمارات الخارجية وعائدات السياحة وعدد قواعد التصنيع. وأدّى ذلك أيضاً إلى تشجيع المنافسة بين الشركاء الغربيين التقليديين، مثل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الصين وروسيا. ويشدّد الدبلوماسيون الصينيون على أنّ بلدان شمال أفريقيا تشكّل إمكانات جذابة للغاية للتعاون الاقتصادي نظراً إلى قربها من الأسواق الأوروبية والأفريقية والآسيوية وعدد المناطق الصناعية الكبير فيها ومستويات الاستثمار العالية في تطوير البنى التحتية.
- التجارة
من مصر إلى المغرب، تزيد الصين تبادلاتها التجارية مع بلدان شمال أفريقيا واستثماراتها فيها. وتختلف استراتيجياتها الاقتصادية من بلد إلى آخر، مع حلول مصر والمغرب والجزائر في الطليعة على سلّم أولوياتها. فبحسب وزارة التجارة والصناعة المصرية، تشكّل مصر ثالث أكبر شريك تجاري للصين في أفريقيا. وفي العام 2017، وصل حجم التبادلات التجارية بين البلدَين إلى 10,87 مليار دولار أمريكي، فيما بلغت قيمة واردات مصر من الصين أكثر من 8 مليارات دولار أمريكي، وهي القيمة الأعلى في شمال أفريقيا. وفي الأشهر الثمانية الأولى من العام 2018، ارتفعت قيمة التبادلات التجارية الثنائية بين مصر والصين بنسبة 26 في المئة تقريباً. أما تبادلات الصين التجارية مع المغرب، فهي أكثر تواضعاً، غير أنها تتوسّع تدريجيّا. وقد بلغت قيمة واردات المغرب من الصين 3,14 مليار دولار أمريكي في العام 2017، لتأتي بذلك بعد تلك الواردة من فرنسا وإسبانيا فحسب.
في غضون ذلك، تشكّل الجزائر أحد شركاء الصين الاقتصاديين الأقدم والأكبر في شمال أفريقيا. فقد باتت الصين شريك الجزائر التجاري الأول في العام 2013، متجاوزةً بذلك فرنسا. غير أنّ العلاقة يشوبها عجز تجاري واضح. ففيما غدت الصين مصدر الجزائر الأول من الواردات، التي بلغت قيمتها 7,85 مليار دولار أمريكي في العام 2018، لا تزال صادرات الجزائر إلى الصين بسيطة نسبياً مقارنة بصادراتها إلى البلدان الأوروبية، وهي بمعظمها تقريباً من قطاع الهيدروكربون. لكنّ صادراتها إلى الصين في تزايد، إذ ارتفعت 60 ضعفاً بين العامَين 2000 و2017.
وازداد التبادل التجاري بين الصين وتونس أيضاً، مع وصول قيمة واردات تونس من الصين إلى 1,85 مليار دولار أمريكي في العام 2017، لتأتي في المرتبة الثالثة بعد فرنسا وإيطاليا. غير أنّ دبلوماسياً صينياً قال إنّ الصين لا تزال تعتبر البلاد خطراً استثمارياً وتشكك في عمليتها الانتقالية الدبلوماسية وتحدياتها الاقتصادية.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا في العام 2011، اضطرّت الصين والكثير من البلدان الأخرى إلى إجلاء مواطنيها والانسحاب من مشاريع واستثمارات مهمة. بيد أنّ صادرات ليبيا النفطية إلى الصين ازدادت أكثر من الضعفين منذ العام 2017، وتترصّد الصين فرص إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع. ففي يوليو 2018، وقّع وزير خارجية حكومة الوفاق الوطني محمد سيالة مذكرة تفاهم مع نظيره الصيني، ممهداً الطريق أمام ليبيا لتنضم إلى مبادرة الحزام والطريق. وعلى عكس القوى الإقليمية الأخرى، لم ينحز الصينيون إلى أيّ طرف في الصراع الليبي بسبب التزامهم بعدم التدخل سياسياً، مما يضعهم في موقف قوي لإبرام صفقات مع أيّ حكومة تتولى زمام السلطة في ليبيا في المستقبل.
- الاستثمار والبنية التحتية
في الجزائر، تهتمّ الشركات الصينية في المقام الأول بقطاعات البناء والإسكان والطاقة. فتبرز في الجزائر مشاريع بناء مهمة بتمويل و/أو تشييد صيني، مثل دار أوبرا الجزائر وفندق شيراتون وجامع الجزائر والطريق السيار شرق-غرب، تماماً كما يبرز آلاف العمال الصينيين الذين بنوا “حياً صينياً” في ضواحي مدينة الجزائر. في غضون ذلك، يتركّز الحضور الصيني في المغرب ومصر في المناطق الصناعية ومناطق التجارة الحرّة والمراكز المالية. ففي المغرب، تشمل هذه المواقع المنطقة الحرّة الأطلسية في القنيطرة والقطب المالي للدار البيضاء والمجمّع المينائي طنجة المتوسط. وفي المجمّع المينائي، تخطط شركات صينية لبناء مراكز لوجستية إقليمية، من بينها شركة الاتصالات العملاقة هواوي.
وفي مارس 2017، أعلن الملك محمد السادس عن خطط لتشييد “مدينة محمد السادس طنجة تيك” الجديدة، التي من المتوقع أن تصبح المشروع الاستثماري الصيني الأكبر في شمال أفريقيا وأن تضمّ عدة مناطق صناعية. وبعد أن انسحبت مجموعة هايتي (Haite) الصينية من المشروع، وقّعت شركة البناء والاتصالات الصينية (CCCC) والشركة التابعة لها التي تدعى شركة الطريق والجسر الصينية (CRBC) مذكّرة تفاهم مع البنك المغربي للتجارة الخارجية في المغرب. وقد بدأ بناء “مدينة تيك” منذ يوليو 2019. وبعد الإعلان عن مشروع “مدينة تيك”، وقّعت شركات تصنيع سيارات صينية، بما فيها شركة بي واي دي (BYD) وشركة سيتيك ديكاستال (Citic Dicastal) وشركة تكنولوجيا الطاقة الجديدة أوتيكار (Aotecar)، اتفاقيات مع الحكومة المغربية لتشييد مصانع متنوّعة.
وفي مصر، يبدي الصينيون اهتماماً متزايداً في بناء المشاريع وتمويلها في العاصمة الإدارية الجديدة وفي المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومناطق صناعية أخرى متعددة في أنحاء البلاد، على الرغم من أنّ الكثير من هذه المشاريع لا يزال في مرحلة التخطيط. وحتى مع مواجهة مصر تحديات في جذب الاستثمارات الخارجية، تشهد مشاريع البناء الصينية تزايداً. لكن في بعض الحالات، فشلت المفاوضات بين الحكومة المصرية والشركات الصينية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك عندما توقّفت النقاشات بين مصر وشركة تشاينا فورتشن لاند ديفلوبمنت (China Fortune Land Development) الصينية لتطوير الأراضي حول مشروع بقيمة أكثر من 20 مليار دولار أمريكي في العاصمة الإدارية الجديدة في ديسمبر 2018 بسبب اختلافات في تشاطر العائدات. غير أنّ الدبلوماسيين الصينيين ذكروا أيضاً قصة النجاح لمشغل إنتاج الألياف الذي يديره الفرع المصري لشركة الألياف الزجاجية الصينية جوشي (Jushi) في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهذا مكّن مصر من أن تصبح إحدى الدول المنتجة الرائدة في صناعة الألياف الزجاجية في العالم.
- التبادلات على مستوى الأشخاص
بحسب الدبلوماسيين الصينيين، “التبادلات على مستوى الأشخاص” عنصرٌ أساسي في مبادرة الحزام والطريق، مع مشاريع بنى تحتية وموانئ ومسارات شحن لا تهدف إلى تحسين التجارة والاستثمار فحسب، بل حركة الأشخاص أيضاً. ويشددون على ضرورة اعتبار مبادرة الحزام والطريق وسيلةً لإعادة وضع مفهوم “طريق الحرير” القديم على خارطة المجتمع المعاصر، إذ قال أحد الدبلوماسيين: “الصورة التي تخطر في بالنا هي التواصل بين مختلف الحضارات… عندما نقول طريق الحرير، نعني طريق السلام.
وقد نجحت مبادرة الحزام والطريق بشكل واضح في تسهيل حركة الأشخاص المرجوّة. فالجزائر تستضيف أكثر من 50 ألف عامل صيني يشكّلون أحد أكبر المجتمعات الصينية في أفريقيا. بالمثل، لا تنفكّ المطاعم والأسواق الصينية تظهر في الدار البيضاء، وهي مركز الأعمال في المغرب، وفي عاصمة البلاد الإدارية الرباط، فيما تتوسّع المجتمعات الصينية فيها، إذ يسكن 4 آلاف صيني في مقاطعة درب عمر وحدها، وهي منطقة الدار البيضاء التجارية. بالإضافة إلى هؤلاء المقيمين الجدد، ازدادت السياحة الصينية نحو بلدان مثل المغرب ومصر بشكل هائل مع إزالة القيود عن تأشيرات السفر وإنذارات السفر. وقال دبلوماسي صيني إنّ عدد السوّاح الصينيين في مصر قد ارتفع إلى 400 ألف سائح في العام 2017، بعد أن كان عددهم 125 ألفاً في العام 2015. في غضون ذلك، استضاف المغرب 120 ألف سائح صيني في العام 2017 ومئة ألف سائح في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2018.
ويشكّل انتشار المراكز الثقافية الصينية في شمال أفريقيا عنصراً آخر من التبادلات “على مستوى الأشخاص”. فقد افتُتح معهد كونفوشيوس الأول في تونس في نوفمبر 2018، فيما تمّ تدشين المركز الثقافي الصيني في الرباط في ديسمبر 2018. في غضون ذلك، تضمّ مصر معهديّ كونفوشيوس أحدهما في جامعة القاهرة والآخر في جامعة قناة السويس، بالإضافة إلى أنها تضمّ مركزاً ثقافياً صينياً. وتنظّم المراكز الثقافية هذه دروساً حول اللغة والثقافة الصينيتَين، بالإضافة إلى المهرجانات. وبصورة عامة، تشير الأعداد المتزايدة للمقيمين والسياح الصينيين والمراكز الثقافية الصينية في شمال أفريقيا إلى أنّ مبادرة القوة الناعمة التي أطلقتها الصين في المنطقة فعالة حتى اليوم وستستمرّ في التوسّع.
- المشاكل في نموذج القوة الناعمة الذي تنتهجه الصين
فيما يشهد حضور الصين التجاري المتنامي في شمال أفريقيا نجاحات كثيرة، هو يضمّ أيضاً بعض النواحي الإشكالية. والأبرز بينها استغلال اليد العاملة الصينية الرخيصة لتشييد مشاريع البناء ذات التمويل الصيني. وقد انتُقدت المشاريع الصينية بسبب “ممارسات العمل المشبوهة” وطُرحت أسئلة حول مدى دعم مشاريع البناء هذه فعلياً أسواق العمل المحلية أو تشجيعها للازدهار الاقتصادي المتشاطر. وسبق أن ولّدت ممارسات العمالة هذه الاستياء لدى بلدان متعددة ومن المرجح أن تزيد الانتقادات تجاه الطبيعة المتمحورة حول الصين التي تتسم بها الكثير من هذه المشاريع، بالإضافة إلى افتقارها إلى الشفافية والتنظيم.
وباتت الاتهامات بخصوص “دبلوماسيّة الدَّين” التي تعتمدها الصين والاستعمار الجديد في جنوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية شائعةً أيضاً. فقد اعتُبرت حالات باكستان وسريلانكا والإكوادور على أنها كارثية للغاية لناحية الدين الصيني والمشاريع الفاشلة. وفيما يواجه كلّ بلد من هذه البلدان تحدياته الاقتصادية الخاصة به، منح الدين الصيني بكين نفوذاً كبيراً في جميع هذه البلدان، مفضياً أحياناً إلى تداعيات كارثية. ففي الإكوادور مثلاً، أضحى سدّ كوكا كودو سينكلير البالغة قيمته 19 مليار دولار أمريكي والمموَّل من الصين فضيحةً وطنية. فقد واجه السدّ مشاكل هيكلية وتشغيلية قبل افتتاحه حتى، والدراسات التي أُجريت عن الأثر البيئي كانت غير وافية إلى حدّ بعيد، وزُجّ كبار المسؤولين الإكوادوريين الذين أبرموا الصفقة في السجن بتهمة تلقّي الرشاوي.
وفي تقرير صدر في العام 2018 عن دين مبادرة الحزام والطريق، حذّر الباحثون من مركز التنمية العالمية أنّ ثمانية بلدان في خطر الوقوع في “دين يفوق المعدل”، بما فيها جيبوتي وطاجيكستان وقيرغيزستان ولاوس والمالديف ومنغوليا وباكستان ومونتينيغرو. وتقوّض مستويات الدين العالية ذات الشروط غير الشفافة الاقتصادات النامية بدلاً من تنميتها، إذ تعاني بلدان مثل المغرب ومصر وتونس أصلاً لتخفّض دينها الخارجي. وبحسب مبادرة الأبحاث الصينية الأفريقية التي قامت بها كلية الأبحاث الدولية المتقدمة SAIS، بلغ مجموع القروض الصينية إلى الحكومات الشمال أفريقية من العام 2000 حتى العام 2017 ما يعادل 4607 مليون دولار أمريكي. ومن البلدان الشمال أفريقية على تلك القائمة، احتلّت مصر المرتبة الأولى لناحية مجموع قروضها من الصين من العام 2000 حتى العام 2017 (3421,60 مليون دولار أمريكي)، وتبعها المغرب (1030,55 مليون دولار أمريكي) وتونس (145,39 مليون دولار أمريكي) والجزائر (9 ملايين دولار أمريكي) وليبيا (صفر).
ومع أنّ البلدان الشمال أفريقية لم تقترض بعد بقدر ما اقترضته بلدان أخرى في أفريقيا أو جنوب آسيا أو أمريكا اللاتينية، يرتفع الدين في بلدان مثل المغرب ومصر ومن المرجّح أن يستمر بالارتفاع. بالتالي، على المنطقة أن تحذر من تكرار التجارب السلبية التي مرّت بها بلدان أخرى مع الدين والتدخل الصينيَّين.
Adel Abdel Ghafar - ANNA L. JACOBS*
*نشرت هذه الدراسة على منصة مؤسسة بروكينغز للأبحاث.