أسواق عالمية

الفساد في ليبيا... رافد آخر لتفشي الفوضى و الإنفلات

بوابة إفريقيا الاقتصادية

خلال الأزمة التي مرت على ليبيا سنة 2011، خرجت أصوات من الداخل والخارج معلنة أن البلاد ستدخل مرحلة جديدة من التطور السياسي والاقتصادي لم تعرفه خلال تاريخها السابق، لكن هذا لم يحصل وتوجهت نحو مسار جديد شعاره الفوضى والعبث بمقدرات الدولة، وعرفت كل المؤسسات في البلاد حالة من اللاقانون والفساد جعلها من أكثر الدول فسادا وفق مؤشر الشفافية الدولة للأعوام التسعة الماضية، مما أثر بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي الذي بات على حافة الانهيار.

فالمؤشرات التي تقدّمها سنويا منظمة الشفافية الدولية تقدّم صورة واضحة عن حالة كل دولة في خرائط البحث سواء كانت الأكثر إيجابية من ناحية مكافحة الفساد أو الأكثر سلبية أو سوداوية في التعامل مع تلك الظاهرة. ومن سوء حظ ليبيا أنها كانت ضمن الصنف الثاني الذي يعيش اليوم المرحلة الأصعب في علاقة بملف الفساد في كل مناحيه.

 إذ يؤكد "مؤشر مدركات الفساد"، في ليبيا أن البلد من بين الدول الـ10 الأكثر فساداً في العالم، وبينما يتمنى المواطن الليبي الازدهار للدولة طيلة العقود الـ5 الماضية، فإنه لا يعمل على ذلك بالكيفية السليمة.

تلك المرحلة الجديدة من سيطرة المليشيات أول ما وضعت أمام أعينها مقدرات البلاد المالية والنفطية لتبدأ مرحلة ممنهجة من الفساد جعلها في أسوأ سلالم الفساد في العالم. ففي عام 2011، وفي آخر تصنيف أصدرته منظمة الشفافية الدولية عن الفساد كانت ليبيا تحتل المرتبة 146 من بين حوالي 180 دولة. بالتأكيد كان ترتيبا سيئا يبيّن أن خللا ما موجود حتى في تلك الفترة.

أما بين العام 2012 و2017 فلم تخرج ليبيا عن العشرين دولة الأكثر فسادا في العالم، بل كانت في أغلب هذه السنوات في العشر مراتب الأخيرة ما يعطي دليلا واضحا أن الشعارات التي رفعت في 2011، كانت مجرّد خدعة تمهّد لمرحلة تالية أعقد وأصعب كان للمليشيات والفوضى الإدارية والسياسية دور فيها.

مظاهر الفساد المالي تواصلت خلال كامل سنوات ما بعد "17 فبراير" حيث تؤكّد مصادر الرقابة أن عملية كبرى تمت سنة 2012 من خلال المؤسسة الليبية للاستثمار فقدت من رصيدها في لبنان مبلغ 2.15 مليار دولار كان من المفترض إلى تصل إلى مصرف ليبيا المركزي لكن تلك الأموال لم تدخل ما يؤكّد وقوع شبهة فساد كبرى يتحمل مسؤوليتهم رأسا مصطفى عبدالجليل باعتباره على علم بالعملية ولم يتعامل مع الأمر بالشكل المطلوب.

في وقت سابق،وجّه ديوان المحاسبة الليبي في العاصمة اتهامات صريحة لأشخاص وجهات لم يسمها، بـ"الفساد والخيانة"، ورصد وقائع فساد في قطاعات عدة، وقال "إن ليبيا لا تزال تعاني من (دواعش) الاعتمادات والتحويلات الخارجية من مصرفيين فاسدين، وتجار خونة لم يراعوا حاجة المواطن البسيط في الغذاء، وهم حتى الآن يستمرون في نهش ما تبقى من مقدرات الوطن، مستغلين ما تمر به الدولة من تشتت وصراعات".

النفط الليبي لم يسلم بدوره من عمليات الفساد إذ يعتبر أهم القطاعات وأكثرها تأثيرا على الوضع الاقتصادي في البلاد، فليبيا دولة تعتمد على النفط موردا رئيسيا في توفير العملة الصعبة وفي رفع الاحتياطي المالي لها وهو يمثل 95 بالمئة من مصادر الثروة في البلاد، لكنه عرف منذ 2011، صعوبات كبيرة سواء بسبب الأوضاع الأمنية التي عطلت عمليات الإنتاج أو عبر انتشار مافيات الفساد داخله مما أثر بشكل كبير على عائداته وتكبّده لخسائر بلغت 68 مليار دولار خلال 5 سنوات من "الثورة". فمنذ الإطاحة بمعمر القذافي بمساعدة غربية وقطرية، نشطت مافيات النفط، واستغلت الحالة التي عليها البلاد وقامت بتهريب كميات كبيرة مما أثر على عمليات التزويد في الداخل بالإضافة إلى الخسائر التي تكبدتها الشركات النفطية والتي كلفتها حوالي 3 مليارات دولار منذ 2011.

الفساد لم تساهم فيه الأطراف الداخلية فقط حيث تدخلت أطراف خارجية لأخذ نصيبها من الثروة النفطية الليبية، حيث دخلت فرنسا الدولة الأكثر تأثيرا من القوى الغربية في دعم الحرب التي وقعت في البلاد لكن ذلك تم بشروط الانتفاع بامتيازات في قطاع البترول والغاز حيث ذكرت صحيفة ليبيراسيون الفرنسية سنة 2011 أن المجلس الانتقالي وعد باريس ب35 بالمئة من عقود النفط، وهي عقود غير قانونية وقعت تحت الابتزاز.

كما كان التدخل القطري واضحا في علاقة بملف النفط الليبي، حيث ذكر وزير النفط ناجي المغربي في تصريحات صحفية أن قطر عبر شركة تنتج حوالي 240 ألف برميل يوميا، مسجلة في سويسرا استولت على 19.5 بالمئة من عائدات الشركة، وهو ما يعتبر انتهاكا وتعديا على حقوق الشعب الليبي.

وفي 22 أكتوبر 2017، قالت قناة «بي بي سي» البريطانية: "إن النائب العام الإيطالي أصدر مذكرات توقيف بحق تسعة أشخاص، وتمكنت الشرطة الإيطالية من اعتقال ستة منهم، هم ليبيان وإيطاليان ومالطيان، على خلفية تهريب وقود ليبي بقيمة 35 مليون دولار، من مصفاة الزاوية لتكرير النفط (غرب العاصمة)، وبيعه في أسواق دول أوروبية".

وقالت الشرطة الإيطالية إنها "رصدت 30 رحلة من ليبيا إلى صقلية، وقد وصلت كميات من الديزل المهرب إلى إسبانيا وفرنسا". فيما كشف الرئيس السابق لوكالة مكافحة الفساد في المملكة المتحدة، جوناثان بينتون، في حوار لراديو «بي بي سي»، أنه رأى مئات الملايين من اليوروات تنقل من ليبيا إلى حسابات شركات خاصة في مالطا... وفي إحدى المرات "تم نقل 100 مليون يورو إلى شركة خاصة في مدينة فاليتا، ووضعت في حسابات ببنوك خاصة، وتم تجهيزها لغسلها في بريطانيا".

وكشف اعتقال هذه المجموعة إلى أي مدى تمددت رقعة الفساد، لتضم أيضاً قطاع النفط، في البلد الذي تضربه الفوضى منذ إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، ما دفع السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت إلى القول إن "هذه إحدى أشهر الجرائم في ليبيا، فجزء كبير من موازنة البلاد الخاصة بالدعم يصرف على الجريمة المنظمة".

وأوضح ميليت في مقالة نشرها على مدونة الخارجية البريطانية، سنة 2018، أن "الليبيين يتمتعون بأرخص وقود في العالم، بفضل دعم حكومي بلغت قيمته هذا العام فقط 4.3 مليار دينار ليبي؛ لكن معظم هذا الوقود يجري تهريبه خارج البلاد عبر شاحنات ليباع في أماكن أخرى من أجل الربح". كما ذكر السفير أن "الفساد هو الوباء الذي سقطت ضحية له دول تحاول النهوض من الفقر، وهناك سياسيون ومسؤولون حول العالم يضعون أيديهم في خزائن المال العام لسرقة ثروات بلدانهم، وتصرفاتهم هذه تعود بالنفع فقط على نخبة ضيقة ومتنفذة، عبر السماح لهم بالحصول على الأموال والمزايا، وتقديم مصالح أصدقائهم وأسرهم وزملائهم في الجريمة".

إضافة إلى ما تسببت فيه الأزمة السياسية والأمنية في ليبيا من تردّ للأوضاع على المواطنين على كل المستويات، ساهم الفساد الذي اخترق كل مؤسسات الدولة في تعميق الأزمة وأثر بشكل كبير على المؤسسات الاقتصادية في البلاد خاصة المصرفية والنفطية التي تشهد منذ الإطاحة بمعمر القذافي عمليات تحيّل كبرى ساهمت في تراجع حاد في الميزان التجاري والمالي للبلاد وجعلها على جفا الإفلاس والانهيار الاقتصادي، وفي أسفل الترتيب لمؤشرات الشفافية والفساد في العالم.

من ذلك،يرى مراقبون أن الانقسام المؤسساتي، والصراع بين الشرعيات الموازية، وانتشار المجموعات المسلحة بالقرب من مركز إصدار القرار تقف وراء تفشي الفساد الذي شمل كل مفاصل الدولة و الخطورة الحقيقية تكمن في مستقبل الدولة الليبية حيث إذ تواصل هذا النزيف في المالية العمومية سيؤثر حتما في مصير الأجيال القادمة.

المرصد
الأسبوع