الاقتصاد الليبي

النفط الليبي في سنوات الحرب ... محرك الاقتصاد ومحرّك المشاكل أيضا

بوابة إفريقيا الاقتصادية

في منتصف يناير الماضي قررت مكونات قبلية في ليبيا إيقاف صادرات النفط من موانئ البريقة وراس لانوف والحريقة والزويتينة والسدرة شرق البلاد، في احتجاجات على سوء التصرف في عائداته من قبل حكومة الوفاق الراجع لها النظر التصرّف في العائدات المالية. التحرك بدأ عبر اعتصام لقبائل برقة شرق البلاد للمطالبة بإقفال الموانى النفطية وإيقاف تصدير النفط احتجاجًا على استخدام وارداته لجلب الاستعمار التركى ودعم وتمويل الميليشيات.

بالتزامن مع تلك التحركات كانت وسائل إعلام مقربة من الوفاق تروّج أن الجيش هو من أغلق الموانئ في إطار عملية تجييش تقوم بها تلك الوسائل منذ بدء المعركة في طرابلس. الجيش المستهدف من تلك الاتهامات نفى نفيا قاطعا أن يكون له أي دخل في إغلاق الموانئ مشيرا إلى أن رجال القبائل اتخذوا قرارهم بناء على تطورات الأحداث في البلاد بعد دخول مرتزقة إلى البلاد بضمانات مالية من حكومة الوفاق التي تعتمد في الأساس على عائدات النفط.

الاقتصاد الليبي في تاريخه الحديث ارتبط دائما بالنفط. الدولة منذ ستينات القرن الماضي وجدت في ما تقدّمه هذه الثروة من امتيازات، حصانة من كل مشاكل اقتصادية حتى في أصعب سنوات الحصار، بل نجح النظام قبل الإطاحة به من قبل الناتو، في استغلال جزء هام من هذه الثروة في تدعيم الاحتياطي المالي، وفي بعث استثمارات خارجية تجعل من البلاد ذات ثقل اقتصادي في محيطها الاقليمي وفي العالم. ومن ذلك المنطلق كان النفط خلال العقود الماضية هو محور كل الصراعات والضغوطات على ليبيا وتواصل ذلك حتى بعد فبراير في ظل رغبة الجميع في ضمان حصّته من الكعكة.

التطورات الأخيرة ربما تكون جزءا من تراكمات متتالية في قطاع النفط منذ حرب فبراير 2011. محاولة ربط الأحداث بالحرب الدائرة في طرابلس فيه نوع من سوء الفهم للحالة الليبية. ربما يكون الصراع العسكري والسياسي في السنة الأخيرة جزءا من المشكل القائم، لكن الحقيقة أن النفط كما هو عصب الاقتصاد في البلاد، هو أيضا عصب الخلاف في كل السنوات الماضية في ظل رغبة كل الأطراف في الاستحواذ على عائداته لأن الجميع يعرفون أنه لا أحد قادرا على تسيير مؤسساته دون أن تكون له عائدات مالية هامة.

قبل الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي كان القطاع يشكل حوالي 95 بالمئة من الموارد وهي النسبة العامة منذ بداية إنتاجه بداية الستينات من العام الماضي. الإنتاج الليبي خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم القذافي كان أكثر من 1.5 مليون برميل يوميا. هذه النسبة كانت تقدّم عائدات مالية كبرى تمثل تحصينا للذات وطريقة ضغط للسياسة الليبية في العديد من الملفات، بل جعلت من البلاد ذات ثقل كبير في محيطها وتحسب لها حسابات كبيرة في كل الخلافات التي تشهدها المنطقة.

بعد 2011، الحالة مختلفة. من لحظة إسقاط نظام القذافي وإسقاط أسس الدولة معه، دخلت ليبيا في حالة من عدم الاستقرار أثرت على كل مناحي الحياة. ربما تُفهم المسألة من جانب كون أي تحولات في أي مكان قد تكون لها تأثيرات سلبية، وليبيا التي وقعت فيها حرب غير محسوبة العواقب ربما مثال أبرز على ذلك. لكن التأثيرات الكبيرة في الحالة الليبية كانت على النفط وهو عصب الاقتصاد الرئيسي ومورد رزق وقد تأثر بشكل كبير من الحرب التي تأكل رحاها الجميع منذ 9 سنوات. ففي تصريحات إعلاميّة في 2016 قال محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير في تعليق له على تراجع عائدات النفط بعد 2011، إنها بلغت 4.8 مليارات دولار بتراجع كبير بلغت نسبه حوالي 90 بالمئة على ما كانت عليه قبل ذلك. بعد 2012، تحسنت الوضعية تدريجيا إلى حدود بلوغ أرقام إيجابية غير مسبوقة في 2018 و2019، بعائدات سنوية تتجاوز 45 مليار دولار، لكن الخلل الذي رافق ذلك التحسن أن حكومة الوفاق تتصرف في أموال النفط في مسالك غير سليمة خاصة في علاقة بتمويل المليشيات المسلحة التي تعتبر اليوم حصن الدفاع الأول عن السراج ودائرته في طرابلس.

خلال تسع سنوات لم تمر أزمة في ليبيا إلا وكان النفط مركز الصراع فيها. كل المعارك كانت سهامها موجهة صوب الموانئ، لأن الجميع مدرك لقيمة ما تحتويه البلاد من ثروة، ويعرف أن أي ابتزاز أو أي مناورة سياسية وحتى أمنية لا يمكن خوضها خارج دائرتها. الإشكال الحاصل فقط في الحالة الليبية منذ اتفاق الصخيرات أن السراج عبر حكومته نال "شرعية" دولية منحته امتيازات العائدات النفطية رغم أن الميدان بيد الجيش المستند إلى برلمان البلاد المتمركز في الشرق.

آخر المؤاخذات على سوء التصرف في أموال النفط ما أفرزته معارك طرابلس في الفترة الأخيرة من دخول مرتزقة متعددي الجنسيات في إطار مشروع تركي داعم لحكومة الوفاق ومن ورائه الأطراف الإسلامية النافذة في طرابلس، حيث أشارت تقارير مختلفة إلى قدوم مسلحين أذريين وسوريين للقتال في طرابلس بضمانات مالية من السراج بتوفير ألاف الدولارات من العملة الصعبة واعتمادا أساسا على أموال النفط وهو السبب الذي جعل القبائل القريبة من موانئ الإنتاج تعتصم وتمنع تصديره إلى حين التأكد من سلامة التصرّف في العائدات المالية.

النفط في ليبيا هو نعمة بالتأكيد وهو ضمانة العيش الكريم لليبيين بما يمكنه أن يوفر لهم من شروط الرفاه، لكنه في الجانب السلبي وجوده في قلب صراع الفرقاء، بل وصراع القوى الخارجية التي انقسمت اليوم لهدف واحد هو ضمان حصّتها. وما المؤتمرات واللقاءات المعلنة والخفية في عواصم العالم إلا حلقة في تلك الصراعات، بل إن تلك القوى تعتبر مساهمة في الحرب الدائرة ومنتفعة من حالة الاقتتال الدائرة باعتبار أن حالة الحرب تمنح لها فرصة المناورة في موقع القوّة.

النفط الليبي الاقتصاد الليبي الموانئ النفطيّة الشرق الليبي الجيش الليبي
المرصد
الأسبوع