سنوات الفساد في ليبيا... الأموال الليبية في مهبّ الفوضى
بوابة إفريقيا الاقتصاديةمنذ العام 2011، تاريخ إسقاط نظام العقيد الليبي معمّر القذافي، أصبح تصنيف ليبيا في مؤشرات الفساد في العالم متأخرا بشكل مخيف. الترتيب الذي تصدره سنويا منظمة الشفافية الدّوليّة، جعل ليبيا من ضمن أكثر الدول فسادا في العالم بالاستناد على أرقام مختلفة تبيّن أن البلد دخل مرحلة مخيفة تستوجب قرارات كبرى ليس هناك أي أفق لتطبيقها وسط لغة السلاح التي لم تعد اليوم تعطي أي قيمة لحالة الانهيار الذي تعيشه البلاد.
أولى شبهات الفساد التي أثيرت في ليبيا كانت العام 2012 وهي الأكبر على الإطلاق وتمت في قلب الأزمة التي تعصف بالبلاد، حين كشفت هيئات الرقابة المالية إن المؤسسة الليبية للاستثمار فقدت من رصيدها في بيروت مبلغا ماليا يتجاوز 2 مليار دولار كان من المفروض أن تدخل حسابات المصرف المركزي لكن ذلك لم يتم، وقد وجهت المسؤولية لرئيس المجلس الانتقالي وقتها مصطفى عبد الجليل الذي كان على علم بتلك العمليّة لكنه لم يتخذ الإجراءات الحمائية اللازمة.
لا يمكن اليوم في ليبيا تحديد المبالغ التي تم التلاعب بها بعد العام 2011. الثابت الوحيد أن مخزونات الاحتياطي الليبي في المصارف المحلية سواء في الأموال العينيّة أو احتياطيات الذهب قد تراجعت بشكل مفزع، وهذا تسجله الهيئات المحلية والدوليّة التي دقت ناقوس الخطر بأن ليبيا قد تعيش أزمة مالية غير مسبوقة تقضي على توازن الاقتصاد، وقد تمظهرت حالة الانهيار في التراجع القياسي لسعر العملة المحليّة. الحديث عن الاحتياطي الليبي يحيل مباشرة إلى حوالي 160 مليار دولار كانت مخزنة أيضا في الخارج، بالتوازي مع الاستثمارات الخارجية التي كانت أضعاف ذلك المبلغ رغم أنها لم تكن أموالا عينيّة.
الإشكال الكبير أن تلك الأموال لم تذهب لتغطية عجز الموازنة أو توفير احتياجات الليبيين بل إنها استغلّت في دعم المسلحين وبث الفوضى في البلاد، حيث أثارت قضية الأموال الليبية في بلجيكا جدلا كبيرا لأنها كانت جزءا من الفساد المالي الذي ضرب البلاد. ففي الفترة الممتدة بين 2012 و2017، سهّلت السلطات البلجيكيّة تحويل مبالغ من الأموال الليبية لديها والمقدّرة ب5 مليار دولار، نحو أطراف ليبية متعلّقة بها تهم الإضرار بأمن البلاد. وقد علّقت الأمم المتحدة في تلك الفترة بالقول إن بلجيكا تجاوزت القانون في علاقة بتلك التحويلات.
قد لا تكون مظاهر الفساد في ليبيا تلاعبا مباشرا بالأموال من طرف جهات أو مجموعات متنفذة، بل ممارسات غير مباشرة يكون تأثيرها كارثيا على اقتصاد البلاد، وعلى رأسها الفساد الإداري. ففي مقال سابق منشور في بوابة إفريقيا الإخبارية تمت الإشارة إلى أن الإدارة في ليبيا تكلّف مليارات الدولارات. المقال المنشور في مارس 2018، أشار إلى الفساد منذ "الثورة" تسبب "في استنزاف أموال الدولة في مسالك غير معروفة أو غير مدروسة حيث تمت مضاعفة مراكز التوظيف الحكومي فوق حاجة وطاقة الدولة وميزانياتها بل إن مصادر رقابة داخلية أكدت أن أكثر من 100 ألف موظف حكومي يتمتعون بتوظيف مزدوج حيث استغلوا الحالة التي عليها الدولة لربط علاقات خاصة تمكنهم من توفير عائدات إضافية دون مراعاة وضعية البلاد الاقتصادية وكان المصرف المركزي في إحصائيات قدمها خلال السنوات الأخيرة قد أكد أن تلك العمليات تسببت في إرهاق الميزانية العامة للدولة التي تدفع سنويا ما يتجاوز 5 مليار دولار رواتب حكومية تقليص قيمة الاحتياطي المالي دون 30 مليار دولار بعد أن كان قبل سقوط النظام يتجاوز 150 مليار دولار." وأضاف المقال أن هيئة الرقابة المالية اكتشفت العمليّة وبدأت منذ العام 2017 إجراءات سحب 100 ألف وظيفة بعد ثبوت تعاطي أصحابها لعمل مزدوج.
وفي تعليق له على حالة الفساد في البلاد أكد ديوان المحاسبة في طرابلس في 2018، أن الهيئات الدولية وضعت ليبيا ضمن الدول السوداء في علاقة بالفساد، وحمّل المسؤولية لأطراف النزاع المتسببة في الانقسام السياسي وغياب سلطة الدولة في مثل هذه الملفات الخطيرة. وأضاف ديوان المحاسبة حسبما نشر موقع "العين الإخبارية" "أن المحاباة والتسيب والوساطة هي السبب الرئيس في إنفاق أكثر من 21 مليار دينار سنويا على المرتبات، ووجود نحو 1.8 مليون موظف عمومي بمعدل إنتاجية لا يتعدى "ربع ساعة" يوميا، فضلا عن التواطؤ والرشوة، والإهمال الذي يعد السبب في إهدار 80 مليار دينار على مشروعات تنموية من عام 2010 حتى العام الجاري (2018)، دون تحقيق أي تنمية".
كما تطرّق الديوان إلى أزمة الكهرباء والأدوية، حيث ذكر أن السلطات الليبية (طرابلس) تنفق سنويات حوالي 10 مليار دولار، دون تسجيل أي انفراج في القطاعين، حيث يتواصل انقطاع الكهرباء بشكل مستمر كما أن أزمة الأدوية مازالت تتفاقم.
في مارس 2019، أشارت تقارير صحفية أيضا إلى أن هيئة مكافحة الفساد في طرابلس، فتحت تحقيقا شاملا يخص مئات الشركات داخل ليبيا وخارجها في علاقة بتهريب وغسل الأموال، حيث تسببت تجاوزاتها في ارتفاع نسبة التضخّم وتراجع قيمة الدينار المحلّي بالإضافة إلى تعميق أزمة السيولة وارتفاع أسعار المواد الأساسية.
آخر مظاهر الفساد هي التي تقع هذه الأيام في علاقة بتحويل الأموال فقد ذكرت بعض المصادر أن مسؤولين كبارا في طرابلس قاموا بتحويل ملايين الدولارات نحو تركيا مستغلين في ذلك حالة الارتباك التي تعيشها العاصمة. وجاء في تقرير سابق لبوابة إفريقيا الاقتصادية أن عددا من "المسؤولين في حكومة الوفاق والقوى السياسية المسيطرة على العاصمة قد قامت بعمليات تحويل ضخمة لأموال من المصارف الليبية ومن حساباها في المصارف الأوروبية تحسباً لأي عقوبات أو تغيرات جذرية على مستوى الميدان."
وأضاف التقرير أن "حركة بيع العقارات الفاخرة والأراضي المملوكة لهذه الشخصيات في ليبيا وتونس ومالطا قد شهدت هي الأخرى نموا لافتاً. ويبدو أن الوضع الميداني في العاصمة طرابلس والتقدم الذي قامت به قوات الجيش الليبي قد ألقى بظلاله على الوضع الاقتصادي العام في البلاد وخاصة على الممتلكات الطائلة التي تملكها أطراف في حكومة الوفاق والقوى السياسية والميليشيوية التي تدعهما".
لم يعد الفساد في ليبيا حالة ظرفيّة بل ظاهرة عامّة تضرب مفاصل الدولة منذ ثماني سنوات. ما ذكر سابقا حالات نادرة تم الكشف عنها لكن الحقيقة قد تكون أكثر من ذلك بكثير. ورغم أن المسؤولين في شرق البلاد وغربها يحاولون التخفيف منها، لكن أغلب المؤشرات خاصة في المنطقة الغربيّة تشير إلى أن الفساد بلغ درجات كبرى لا تُعرف حتى كيفية مواجهتها في ظل تداخل المليشيوي بالسياسي.